فصل: خطبة في أشراط الساعة لأحد العلماء رحمه الله تعالى:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.خطبة في أشراط الساعة لأحد العلماء رحمه الله تعالى:

الحمد لله الَّذِي جعل الليل والنَّهَارَ خلقة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً الَّذِي اعترفت بوحدانيته جَمِيع مخلوقاته فارجع البصر إلى السماء هل تَرَى من فطور أحمده سُبْحَانَهُ وتَعَالَى حمد عبد معترف بصدق اليقين وأشكره شكرًا دائمًا في كُلّ حين.
وأشهد أن لا إله وحده لا شريكه له الملك الحق المبين وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله الصادق الوعد الأمين اللَّهُمَّ صلِّ وسلم على عبدك ورسولك مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وصلاة وسلامًا يمتدان إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها النَّاس اتقوا الله تَعَالَى فإن تقواه من النار حصن حصين وتنزهوا عن حب الدُّنْيَا كي تفوزوا مَعَ الزاهدين عباد الله انتبهوا من رقادكم فإن الأجل إلى القبور يسير ولم يبق من دنياكم إِلا إليسير اقتربت الساعة فالدُّنْيَا على شرف هار وظهرت علامتها ظهور الشمس في رابعة النَّهَارَ.
ألا إن الدُّنْيَا قَدْ أدبرت وولت حذاء ولم يبق منها إِلا كصبابة عيش يتصابها أهلها وإن الآخِرَة قَدْ أقبلت فكونوا من أبناء الآخِرَة ولا تكونوا من أبناء الدُّنْيَا فإن اليوم عمل ولا حساب وغدًا حساب ولا عمل، أما ترون الأمانة قَدْ ضيعت والزمان تغير بظهور الفواحش في كُلّ مكَانَ وتتابع الفتن ودخولها من كُلّ باب ووقوف الأعراب على أفواه الشعاب وتطاول الحفاة العراة في البنيان.
وفشو الحسد والظلم والجور وقتل النفس بغير حق ونزع الإِيمَان والرحمة من القُلُوب وجور الحكام وفتك الأعراض وموت الْعُلَمَاء العاملين واحدًا بعد واحد كأنهم للمنية أغراض.
وفشو الزنا والربا وهما سبب الفقر والأمراض وساد القبيلة منافقوها وعلا فجارها صالحيها وصار زعيم القوم أرذلهم وارتفعت الأصوات في المساجد وأكرم الرجل مخافة شره فصار العاصي عَنْدَ النَّاس قريبًا والمطيع بين أظهرهم غريبًا.
ألا هل معين على غربة الإسلام ألا هل معين على غربة الإسلام فقَدْ بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فعَنْدَ ظهور هذه العظائم يؤخذ بالجرائم أما كَانَ المغنم دولاً والأمانة مغنمًا والزَّكَاة مغرمًا أما تعلم العلم لغير الدين أما أطاع الرجل زوجته وعق أمه وبر صديقه وجفا أباه.
أما شربت المسكرات ولبس الحرير واتخذت القينات والمعازف ألا فإن المصطفى عَلَيْهِ أفضل الصَّلاة والسَّلام قال: «إذا ظهرت هذه فارتقبوا عَنْدَ ذَلِكَ ريحًا حمرًا ومسخًا وخسفًا». وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة مرفوعًا: «لن أن تَقُوم الساعة حتى تروا عشر آيات فذكر الدخان وخروج يأجوج ومأجوج وتخريب الكعبة ورفع القرآن من صدور حامليه وخروج الدابة ومحمدًا المهدي وطلوع الشمس من مغربها. فإذا طلعت ورآها النَّاس آمنوا أجمعون فذَلِكَ حين لا ينفع نفسًا إيمانه لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا وآخر الآيات نار تخَرَجَ من إليمن تطرد النَّاس إلى محشرهم تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معه حيث قَالُوا».
فانتبهوا لهذه الأهوال بما يؤمنكم بالتوبة النصوح والزموا باب مولاكم واقرعوه فإنه مفتوح: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
أجارني الله وإياكم من عذاب النار وأصلح لي ولكم الْعَمَل لدار القرار.
إن أحسن المواعظ للمتدبرين كلام الله الملك الحق المبين والله يَقُولُ وبقوله يهتدي المؤمنون: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}. أعوذ بِاللهِ من الشيطان الرجيم: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العَظِيم. ونفعني وإياكم بما فيه الآيات والذكر الحكيم أَقُول قولي هَذَا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كُلّ ذنب فاستغفروه إنه هُوَ الغفور الرحيم.
فصل:
وخَرجَ مسلم من حديث أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أَبِي هُرَيْرَةِ وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة كلاهما عن النَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكر حديث الشفاعة، وفيه قال: «فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُومُ وَيُؤْذَنُ لَهُ وَتُرْسَلُ معه الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَيَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ»، قَالَ: قُلْتُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي أَيُّ شَيْء كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: «أَلَمْ تَرَ إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ، ثُمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَأَشَدِّ الرِّجَال تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، وَنَبِيُّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ، وَحَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلا زَحْفًا». قَالَ: «وَفِي حَافَتَيْ الصِّرَاطِ كَلالِيبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ، وَمُكَرْدَسٌ فِي النَّارِ». وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بِيَدِهِ إِنَّ قَعْرَ جَهَنَّمَ لَسَبْعِينَ خَرِيفًا.
وروى أبو الزعراء عن ابن مسعود قال: يأمر الله بالصراط فيضرب على جهنم فيمر النَّاس عَلَى قَدْرِ أعمالهم زمرًا زمرًا، أوائلهم كلمح البرق، ثُمَّ كمر الريح، ثُمَّ كمر الطير، ثم كمر البهائم، حتى يمر الرجل سعيًا، وحتى يمر الرجل مشيًا، حتى يجيء آخرهم يتلبط على بطنه، فَيَقُولُ: يا رب لم بطأت بي؟ فَيَقُولُ: إني لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك، وَذَلِكَ أن الإِيمَان والْعَمَل الصالح في الدُّنْيَا هو الصراط المستقيم في الدُّنْيَا الَّذِي أمر الله العباد بسلوكه والاستقامة عَلَيْهِ وأمرهم بسؤال الهداية إليه، فمن استقام سيره على هَذَا الصراط المستقيم في الدُّنْيَا، ولم ينحرف عَنْهُ يمنةً ولا يسرةً استقام سيره على الصراط المنصوب على متن جهنم ومن لم يستقم سيره على الصراط المستقيم في الدُّنْيَا بل انحرف عَنْهُ إمّا إلى فتنة الشبهات، أو إلى فتنة الشهوات كَانَ اختطاف الكلاليب له على صراط جهنم، بحسب اختطاف الشبهات والشهوات له عن هَذَا الصراط المستقيم.
أَمَامِي مَوْقِفٌ قُدَّامُ رَبِّي ** يُسَائِلْنِي وَيَنْكَشِفُ الْغِطَاءُ

وَحَسْبِي أَن أَمُرَّ عَلَى صِرَاطٍ ** كَحَدِّ السَّيْفِ أَسْفَلُهُ لَظَاءُ

ففكر في أهوال الصراط وعظائمه، وما يحل بالإِنْسَان من الذعر والخوف عَنْدَ رؤيته، ووقوع بصرك على جهنم من تحته، وسماعك شهيقها وتغيظها على الكفرة، وقَدْ اضطرت إلى أن تمشي على الصراط الَّذِي مرت صفته وصفة المُرُور عَلَيْهِ مَعَ ضعف حالك، وكونك حافيًا عاريًا، وثقل الظهر بالأوزار المانعة عن المشي في الأَرْض المستوية فضلاً عن المشي على حد الصراط، فتصور وضعك رجلك عَلَيْهِ وإحساسك بحدته وأَنْتَ مضطر إلى أن ترفع رجلاً وتضع الأخرى، وأَنْتَ مندهش مِمَّا تحتك وأمامك ممن يئنون، وآخرون يزلون، وآخرون يخطفون بالخطاطيف وبالكلاليب، والعويل والبُكَاء تسمَعَ له تتابعًا وَدَوِيًّا، وتنظر الَّذِينَ ينتكسون على رؤوسهم، وآخرون على وجوههم، فتعلوا الأرجل، فيا له من منظر فظيع، ومرتقًى ما أصعبه، ومجاز ما أضيقه، ومكَانَ ما أهوله، وموقف ما أشقه، وكأني بك مملوء من الرعب والذعر، تلفت يمينًا وشمالاً إلى من حولك من الخلق، وتجيل فيهم بصرك، وهم يتهافتون قدامك في جهنم، والزعقات بالويل والثبور قَدْ ارتفعت من قعر جهنم، لكثرة من يزل عن الصراط، والنَّبِيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «رب سلم سَلم». فتصور لو زلت قدمك فهل ينفعك ندمك، وتحسرك في ذَلِكَ الوَقْت كلا: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}.
اللَّهُمَّ يا حي يا قيوم يا بديع السماوات والأَرْض نسألك أن تكفينا ما أهمنا وما لا نهتم به وأن ترزقنا الاستعداد لما أمامنا بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى وآله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.
رحلة ومصير:
يَا مَنْ يُتَابِعُ سَيَّدَ الثَّقَلانِ ** كُنْ لِلْمُهَيْمِنِ صَادِقَ الإِيمَانِ

وَاعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ خَالِقُكَ الَّذِي ** سَوَّاكَ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِنْسَانِ

خَلَقَ الْبَرِيَّةَ كُلَّهَا مِنْ أَجْلِ أَنْ ** تَدْعُوهُ بِالإِخْلاصِ وَالإذْعَانِ

قَدْ أَرْسَلَ الآيَاتِ مِنْهُ مُخَوِّفًا ** لِعِبَادِهِ كَيْ يُخْلِصَ الثَّقَلانِ

وَأَبَانَ لِلإِنْسَانِ كُلَّ طَرِيقَةٍ ** كَيْ لا يَكُونَ لَهُ اعْتِذَارٌ ثَانِي

ثُمَّ اقْتَضَى أَمْرًا وَنَهْيًا عَلَّهَا ** تَتَمَيَّزُ التَّقْوَى عَنِ الْعِصْيَانِ

وَوُلِدْتَ مَفْطُورًا بِفِطْرَتِكَ الَّتِي ** لَيْسَتْ سِوَى التَّصْدِيقِ وَالإيمَانِ

وَبُلِيتَ بِالتَّكْلِيفِ أَنْتَ مُخَيَّرٌ ** وَأَمَامَكَ النَّجْدَانِ مُفْتَتَحَانِ

فَعَمِلْتَ مَا تَهْوَى وَأَنْتَ مُرَاقَبٌ ** مَا كُنْتَ مَحْجُوبًا عَنِ الدَّيَّانِ

ثُمَّ انْقَضَى الْعُمْرُ الَّذِي تَهْنَا بِهِ ** وَبَدَأْتَ فِي ضَعْفٍ وَفِي نُقْصَانِ

وَدَنَا الْفِرَاقُ وَلاتَ حِينَ تَهَرُّبٌ ** أَيْنَ الْمَفَرُّ مِن الْقَضَاءِ الدَّانِي

وَالْتَفَّ صَحْبُكَ يَرْقُبُونَ بِحَسْرَةٍ ** مَاذَا تَكُونُ عَوَاقِبُ الْحَدَثَانِ

وَاسْتَلَّ رُوحَكَ وَالْقُلُوبُ تَقَطَّعَتْ ** حَزَنًا وَأَلْقَتْ دَمْعَهَا الْعَيْنَانِ

فَاجْتَاحَ أَهْلَ الدَّارِ حُزْنٌ بَالِغٌ ** وَاجْتَاحَ مَنْ حَضَرُوا مِنَ الْجِيرَانِ

فَالْبِنْتُ عَبْرَى لِلْفِرَاقِ كَئِيبَةً ** وَالدَّمْعُ يَمْلأ سَاحَةَ الأَجْفَانِ

وَالزَّوْجَ ثَكْلَى وَالصِّغَارُ تَجَمَّعُوا ** يَتَطَّلَعُونَ تَطَلُّعَ الْحَيْرَان

وَالابْنُ يَدْأَبُ فِي جِهَازِكَ كَاتِمًا ** شَيْئًا مِنَ الأَحْزَانِ وَالأَشْجَانِ

وَسَرَى الْحَدِيث وَقَدْ تَسَائَلَ بَعْضُهُمْ ** أَوْ مَا سَمِعْتُمْ عَنْ وَفَاةِ فُلانِ

قَالُوا سَمِعْنَا وَالْوَفَاةُ سَبِيلُنَا ** غَيْرَ الْمُهَيْمِنِ كُلُّ شَيْءٍ فَانِي

وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا ** مِنْ كُلِّ صَوْبٍ لِلْحُطَامِ الْفَانِي

وَأَتَى الْمُغَسِّلُ وَالْمُكَفِّنُ قَدْ أَتَى ** لِيُجَلِّلُوكَ بِحُلِّةِ الأَكْفَانِ

وَيُجَرِّدُوكَ مِنَ الثِّيَابِ وَيَنْزَعُوا ** عَنْكَ الْحَرِيرَ وَحُلَّةَ الْكَتَّانِ

وَتَعُودُ فَرْدًا لَسْتَ حَامِلَ حَاجَةٍ ** مِن هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى الأَكْفَانِ

وَأَتَى الْحَدِيث لِوَارِثِيكَ فَأَسْرَعُوا ** فَأَتُوا بِنَعْشٍ وَاهِنَ الْعِيدَانِ

صَلُّوا عَلَيْكَ وَأَرْكَبُوكَ بِمَرْكَبٍ ** فَوْقَ الظُّهُورِ يُحَفُّ بِالأَحْزَانِ

حَتَّى إِلَى الْقَبْرِ الَّذِي لَكَ جَهَّزُوا ** وَضَعُوكَ عِنْدَ شَفِيرِهِ بِحَنَانِ

وَدَنَا الأَقَارِبُ يَرْفَعُونَكَ بَيْنَهُمْ ** لِلْحَدِّ كَيْ تُمْسِي مَعَ الدِّيدَان

وَسَكَنْتَ لَحْدًا قَدْ يَضِيقُ لِضَيْقِهِ ** صَدْرَ الْحَلِيمِ وَصَابِرُ الْحَيَوَانِ

وَسَمِعْتَ قَرْعَ نِعَالِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا ** وَضَعُوكَ فِي الْبَيْتِ الصَّغِيرِ الثَّانِي

فِيهِ الظَّلامُ كَذَا السُّكُونُ مُخَيَّمٌ ** وَالرُّوحُ رَدَّ وَجَاءَكَ الْمَلَكَانِ

وَهُنَا الْحَقِيقَةُ وَالْمُحَقِّقُ قَدْ أَتَى ** هَذَا مَقَامُ النَّصْرِ وَالْخُذْلانِ

إِنْ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا لِرَبِّكَ مُخْلِصًا ** تَدْعُوهُ بِالتَّوْحِيدِ وَالإِيمَانِ

فَتَظَلُّ تَرْفُلُ فِي النَّعِيمِ مُرَفَهًا ** بِفَسِيحِ قَبْرٍ طَاهِرِ الأَرْكَانِ

وَلَكَ الرَّفِيقُ عَنِ الْفِرَاقَ مُسَلِّيًا ** يُغْنِي عَنِ الأَحْبَابِ وَالأَخْدَانِ

فُتِحَتْ عَلَيْكَ مِنَ الْجِنَانِ نَوَافِذٌ ** تَأْتِيكَ بِالأَنْوَارِ وَالرَّيْحَانِ

وَتَظَلُّ مُنْشَرِحَ الْفُؤَادِ مُنْعَمًا ** حَتَّى يَقُومَ إِلَى الْقَضَا الثَّقَلانِ

تَأْتِي الْحِسَابَ وَقَدْ فَتَحَتَ صَحِيفَةً ** بِالنُّورِ قَدْ كُتِبَتْ وَبِالرِّضْوَانِ

وَتَرَى الْخَلائِقَ خَائِفِينَ لِذَنْبِهِمْ ** وَتَسِيرُ أَنْتَ بِعِزَّةٍ وَأَمَان

وَيُظِلُّكَ اللهُ الْكَرِيمُ بِظِلِّهِ ** وَالنَّاسُ فِي عَرَقٍ إِلَى الآذَانِ

وَتَرَى الصِّرَاطَ وَلَيْسَ فِي صُعُوبَةٌ ** كَالْبَرَقِ تَعْبُرُ فِيهِ نَحْوَ جِنَانِ

فتَرَى الْجِنَانَ بِحُسْنِهَا وَجَمَالِهَا ** وَتَرَى الْقُصُورَ رَفِيعَةَ الْبُنْيَانِ

طِبْ فِي رَغِيدِ الْعَيْشِ دُونَ مَشَقَّةٍ ** تَكْفِي مَشَقَّةٌ سَالِفِ الأَزْمَانِ

وَالبَسْ ثِيَابَ الْخُلْدِ وَاشْرَبْ وَاغْتَسِلْ ** وَابْعِدْ عَنِ الأَكْدَارِ وَالأَحْزَانِ

سِرْ وَانْظُرْ الأَنْهَارَ وَاشْرَبْ مَاءَهَا ** مِنْ فَوْقِهَا الأَثْمَارُ فِي الأَفْنَانِ

وَالشَّهْدُ جَارٍ فِي الْعُيُونِ مُطَهَرٌ ** مَعَ خَمْرَةِ الْفِرْدَوْسِ وَالأَلْبَانِ

وَالزَّوْجُ حُورٌ فِي الْبُيُوتِ كَوَاعِبٌ ** بِيضُ الْوُجُوهِ خَوَامِصُ الأَبْدَان

أَبْكَار شِبْهِ الدَّارِ فِي أَصْدَافِهِ ** وَاللُّؤلُو الْمَكْنُونِ وَالْمُرْجَانِ

وَهُنَا مَقَرٌّ لا تَحُولَ بَعْدَهُ ** فِيهِ السُّرُورِ بِرُؤْيَةِ الرَّحْمَنِ

أَمَّا إِذَا مَا كُنْتَ فِيهَا مُجْرِمًا ** مُتَتَبِّعًا لِطَرَائِقِ الشَّيْطَانِ

ثَكِلْتَكَ أُمُّكَ كَيْفَ تَحْتَمِلُ الأَذَى ** أَمْ كَيْفَ تَصْبِرُ فِي لَظَى النِّيَرانِ

فَإِذَا تَفَرَّقَ عَنْكَ صَحْبُكَ وَانْثَنَى ** حُمَّالُ نَعْشِكَ جَاءَكَ الْمَلَكَانِ

جَاءآلآ مَرْهُوبِينَ منِ ْعيَنْيِهِمَا ** تُرْمَى بِأَشْوَاظٍ مِنَ النِّيرَان

سَألاكَ عَنْ رَبٍّ قَدِيرٍ خَالِقٍ ** وَعَنِ الَّذِي قَدْ جَاءَ بِالْقُرْآنِ

فَتَقُولُ لا أَدْرِي وَكُنْتُ مُصَدِّقًا ** أَقْوَالُ شِبْهِ مَقَالَةِ الثَّقَلانِ

فَيُوبِّخَانِكَ بِالْكَلامِ بِشَدَّةِ ** وَسَيَضْرِبَانِكَ ضَرْبَةَ السَّجَانِ

فَتَصِيح صَيْحَةَ آسَفٍ مُتَوَجِّعٍ ** وَيَجِي الشُّجَاعُ وَذَاكَ هَوْلٌ ثَانِي

وَيَجِي الرَّفِيقُ فَيَا قَبَاحَةَ وَجْهِهِ ** فَكَأَنَّهُ مُتَمَرِّدٌ مِنْ جَانِ

وَتَقُولُ يَا وَيْلا أَمَالِي رَجْعَةٌ ** حَتَّى أحلَّ بِسَاحَةِ الإِيمَانِ

لَوْ عُدْتَ لِلدُّنْيَا لَعُدْتَ لِمَا مَضَى ** فِي جَانِبِ التَّكْذِيبِ وَالْعِصْيَان

اللَّهُمَّ يا جامَعَ النَّاس ليوم لا ريب فيه اجمَعَ بيننا وبين الصدق والنِّيْة الصَّالِحَة والإِخْلاص والخشوع والْمُرَاقَبَة واليقين والعلم والمعرفة والفصاحة والبيان والفهم في القرآن وخصنا منك بالمحبة والاصطفائية ووفقنا للعمل الصالح الرشيد والرزق الهنيء الَّذِي لا حجاب به في الدُّنْيَا ولا حساب ولا سؤال ولا عقاب عَلَيْهِ في الدُّنْيَا والآخِرَة، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالدينَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ أَجْمَعِين.

.نصيحة لهارون الرشيد:

قام مُحَمَّد بن أوس الهلالي لهارون الرشيد واعترضه عِنْد الحجر فَقَالَ: يا أمير الْمُؤْمِنِين استمَعَ كلامي فإنك إن سمعته حقًا قبلته وإن سمعته باطلاً فلا تعبأ به فوقف الرشيد.
فَقَالَ أوس: يا من غذي في نعيم وتردد في ملك سليم إن خفت الْعَذَاب الأليم وأحببت البقاء في سرور فلا تسمعن ممن أَنْتَ بينهما ولا تغترن بشَيْء من قولهما فإن الله عَزَّ وَجَلَّ يخلو بك دونهما والموت يصل إليك على الطوع والكره منهما فلا تصدقان بالذليل ولا تتكثرن بالقليل ولا تعتصم بغير دافع ولا تطمئن إلى غير مانع لا يمنع ولا يدفع عَنْكَ.
فإنك بعين الله وبحضرة بيته الَّذِي جعله مثابةً للناس الزائرين ومنحجرًا للفاجر فانتفض الرشيد وجلس وخلا يديه عنهما وأومأ أن خذوا الرجل فأخذ حتى قضى طوافه وصلى وَرَجَعَ إلى المنزل الَّذِي نزل به ودعا بالرجل فأدخل عَلَيْهِ شيخ جليل.
فَقَالَ: من قبيلتك؟ قال: بنو هلال. قال: قبيلة مشهورة فما حَمَلَكَ أن كلمتني بالَّذِي كلمتني.
قال: إشفاقًا عَلَيْكَ إذا أنضيت الركاب وأتعب الرِّجَال وأنفقت الأموال في أمور الله عَزَّ وَجَلَّ أعلم بها حتى إذا صرت إلى غاية الطالب وموضع ترجو فيه الرحمة اعتمدت على ظالمين طاغيين قَدْ جبلا على الغشم ونشأ على الظلم وقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً}.
فنكس الرشيد رأسه وأقبل ينكت في الأَرْض وعَيْنَاهُ تذرفان ثُمَّ رفع رأسه فَقَالَ: من أين مطعمك وشربك؟ قال: من عِنْد من يرزقك. قال: من ذاك؟ قال: من عِنْد من خلق الحب والنوى وأخَرَجَ الحب من الثرى من طعام سهرت فيه العيون وتعبت في حصاده الأجساد وحرسته الملائكة حتى أتاني به القدر بلا رنق ولا كدر.
قال: ألك عيال؟ قال: نعم. قال: ومن هنَّ؟ قال: زوجة. قال: أتختلف إلى تجارة أو تحترف في صناعة؟ قال: قَدْ كفان الله مؤنةً ذَلِكَ بالعافية. قال: أفلا أجري عَلَيْكَ رزقًا تستعين به على بعض أمورك وتستغني به عن الطلب من غيرك؟ قال: إني بِاللهِ أغنى مني بما بذلت لي من ذَلِكَ.
قال: ألك حَاجَة؟ قال: نعم، أطع الله عَزَّ وَجَلَّ فيما تعلم من سرك فإنك تصل إلى كُلّ محبوب وتنال به كُلّ مطلوب ولست تبلغ شَيْئًا من نكاية عَدُوّكَ إِلا من طَاعَتكَ لربك فإنك إن أطعته جعل ناصية عَدُوّكَ بيدك فلا تشاء أمرًا إِلا بلغته ولا مكروهًا إِلا نلته.
قال: ألك حَاجَة غيرها؟ قال: أتؤمنني من الموت؟ قال: لا أقدر على ذَلِكَ، قال: فتجيرني من النار؟ قال: لَيْسَتْ في يدي، قال: فتدخلني الْجَنَّة؟ قال: لست أملك، قال: أفتحي لي ميتًا حتى أساله عما عاين ورأى، قال: ذاك في قدرة غيري. قال: ما أَنْتَ إِلا كسائر من تَرَى من رعيتك غير أن الله عَزَّ وَجَلَّ فضلك عَلَيْهمْ بما أعطاك من هَذَا الحطام الزائل واستخلفك في الأَرْض لينظر كيف تعمل.
ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ الرشيد: الحمد لله الَّذِي جعل في رعية أَنَا عَلَيْهَا مثله ولا تزال هذه الأمة بخَيْر ما لم يعدموا هَذَا ونظراءه وأشباهه.
قُلْتُ: هَذَا من رقم (1) في العفاف والزهد. وَاللهُ أَعْلَمُ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ.
اعْمَلْ بَعَلْمِكَ تَغْنَمْ أَيُّهَا الرَّجُلُ ** لا يَنْفَعُ الْعِلْمُ إِنْ لَمْ يَحْسُنِ الْعَمَلُ

وَالْعِلْمُ زينٌ وَتَقْوَى اللهِ زِينَتُهُ ** وَالْمُتَّقُونَ لَهُمْ فِي عِلْمِهِمْ شُغُلُ

وَحُجَّةُ اللهِ يَا ذَا الْعِلْم بَالِغَةٌ ** لا الْمَكْرُ يُنْفَعُ فِيهَا لا وَلا الْحِيَلُ

تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَاعْمَلْ مَا اسْتَطَعْتَ بِهِ ** لا يُلْهِيَنَّكَ عَنْهُ اللَّهْوُ وَالْجَدَلُ

وَعَلِّمِ النَّاسَ وَاقْصُدْ نَفْعَهُمْ أَبَدَا ** إِيَّاكَ إيَّاكَ أَنْ يَعْتَادَكَ الْمَلَلُ

وَعِضْ أَخَاكَ بِرِفْقٍ عِنْدَ زَلَّتِهِ ** فَالْعِلْمُ يَعْطِفُ مَنْ يَعْتَادُهُ الزَّلَلُ

وَإِنْ تَكُنْ بَيْنَ قَوْمٍ لا خَلاقَ لَهُمْ ** فَأَمُرْ عَلَيْهمْ بِمَعْرُوف إِذَا جَهَلُوا

فَإِنْ عَصَوْكَ فَرَاجِعْهُمْ بِلا ضَجَر ** وَاصْبِرْ وَصَابِرْ وَلا يَحْزُنْكَ مَا فَعَلُوا

فَكُلُّ شَاةٍ بِرِجْلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ ** عَلَيْكَ نَفْسَكَ إِنْ جَارُوا وَإِنْ عَدَلُوا

اللَّهُمَّ إنا نسألك رحمة من عندك تهدي بها قلوبنا، وتجمَعَ بها شملنا، وتلم بها شعثنا، وترفع بها شاهدنا، وتحفظ بها غائبنا، وتزكي بها أعمالنا، وتلهمنا بها رشدنا، وتعصمنا بها من كُلّ سوء يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.
اللَّهُمَّ يا هادي المضلين ويا راحم المذنبين، ومقيل عثرات العاثرين، نسألك أن تلحقنا بعبادك الصالحين الَّذِينَ أنعمت عَلَيْهمْ من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين آمين يا رب العالمين.
اللَّهُمَّ يا عَالِم الخفيات، ويا رفيع الدرجات، يا غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول لا إله إِلا أَنْتَ إليك المصير.
نسألك أن تذيقنا برد عفوك، وحلاوة رحمتك، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، ويا أرأف الرائفين وأكرم الأكرمين، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وعلى آله وصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.